الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: خزانة الأدب وغاية الأرب ***
أكل عام نعم تحوونه على أنه بتقدير حواية نعم ليصح الإخبار عن اسم العين باسم الزمان، فإن قوله أكل عام منصوب على الظرف في موضع خبر لقوله نعم فوجب تقدير مضاف. وقدره الشارح المحقق حواية بدليل تحوونه؛ وهو مصدر حويت الشيء أحويه: إذا ضممته واستوليت عليه وملكته. وقدره ابن الناظم في شرح الخلاصة إحراز نعم . وقدره ابن هشام نهب نعم . وقدره ابن خلف أخذ نعم وتحصيل نعم. وقال النحاس: كان المبرد يذهب إلى أن المعنى: أكل عام حدوث نعم! فيكون كل منصوباً بالحدوث كما تقول: الليلة الهلال. قال أبو الحسن رداً عليه: ليس النعم شيئاً يحدث لم يكن، كيوم الجمعة وما أشبه، ولكن العامل في كل الاستقرار والخبر محذوف كأنه قال: نعم تحوونه لكم. أقول: المبرد قدر هذا المضاف لصحة الإخبار، لا لأنه عامل في الظرف. وكيف يكون العامل في كل الاستقرار مع كون الخبر محذوفاً مقدراً بلكم! فتأمل. وقدر صاحب اللب المحذوف مثل المبرد، قال شارحه: يحتمل أن يكون مراده أن المضاف هنا محذوف، أي: أحدوث نعم حصل في كل عام، وأحصل في كل عام حدوث نعم؛ فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه، فيكون المبتد والعامل في التقدير حدثاً غير مستمر. وأن يكون مراده أن للنعم في نفسه تجدداً وحدوثاً في كل عام كما أن في نفس الهلال تجدداً وحدوثاً في كل شهر . وفهم من كلامه شيئان: الأول الرد على أبي الحسن في قوله: ليس النعم شيئاً يحدث . والثاني: أن نعماً لا يتعين أن يكون مبتدأ، بل يجوز أيضاً أن يكون فاعل الظرف. ومثله قال ابن هشام في شرح الشواهد: الأحسن أن يكون نعم فاعلاً بالظرف لاعتماده فلا مبتدأ ولا خبر، ومع هذا فلابد من التقدير أيضاً، لأنه لأجل المعنى لا لأجل المبتدأ؛ إذ الذي يحكم له بالاستقرار هو الأفعال لا الذوات . وأورد س هذا البيت على أن جملة تحوونه صفة لنعم. واستشهد به أيضاً صاحب الكشاف على تذكير الأنعام في قوله تعالى: {وإن لكم في الأنعام لعبرة نسقيكم مما في بطونه}، لأنه مذكر، كما ذكر الشاعر الضمير المنصوب في تحوونه الراجع إلى النعم. لأنه النعم اسم مفرد بمعنى الجمع، قال الفراء: هو مفرد لا يؤنث، يقال هذا نعم وارد. وقال الهروي: والنعم يذكر ويؤنث وكذلك الأنعام تذكر وتؤنث؛ ولهذا قال: مما في بطونه، وفي موضع آخر: مما في بطونها. قال الراغب في موضع: النعم مختص بالإبل. قال: وتسميته بذلك لكون الإبل عندهم أعظم نعمة. ثم قال: لكن الأنعام يقال للإبل والبقر والغنم، ولا يقال لها أنعام حتى يكون فيها إبل. وقال في قوله تعالى مما يأكل الناس والأنعام: إن الأنعام هاهنا عام في الإبل وغيرها. وروي أيض: في كل عام بالجار يدل الهمزة، والهمزة للاستفهام الإنكاري. وبعده: الرجز يلقحه قوم وتنتجونه *** أربابه نوكى فلا يحمونه ولا يلاقون طعاناً دونه *** أنعم الأبناء تحسبونه أيهات أيهات لما ترجونه يقول: يحملون الفحولة على النوق، فإذا حملت أغرتم أنتم عليها فأخذتموها وهي حوامل فتلد عندكم. يقال: ألقح الفحل الناقة: إذا أحبلها. واللقاح كسحاب: ماء الفحل. وتنتجونه، بتاء الخطاب، يقال: نتج الناقة أهلها أي: استولدوها، وأنتجت الفرس بالهمزة: حان نتاجها. قال صاحب المصباح: النتاج بالكسر اسم يشتمل وضع البهائم من الغنم وغيرها. وإذا ولي الإنسان ناقة وشاة ماخضاً حتى تضع قيل: نتجها نتجاً من باب ضرب، فالإنسان كالقابلة لأنه يتلقى الولد ويصلح من شأنه؛ فهو ناتج، والبهيمة منتوجة، والولد نتيجة. والأصل في الفعل أن يتعدى إلى مفعولين فيقال نتجها ولداً، لأنه بمعنى ولدها ولداً. ويبنى الفعل للمفعول فيحذف الفاعل ويقام المفعول الأول مقامه. ويقال: نتجت الناقة ولداً إذا وضعته ويجوز حذف المفعول الثاني اقتصاراً لفهم المعنى فيقال نتجت الشاة ويجوز إقامة المفعول الثاني مقام الفاعل وحذف المفعول الأول لفهم المعنى فيقال: نتج الولد ونتجت السخلة أي: ولدت. وقد يقال: نتجت الناقة ولداً، بالبناء للفاعل على معنى ولدت وحملت. قال السرقسطي: نتج الرجل الحامل: وضعت عنده، ونتجت هي أيضاً: حمت، لغة قليلة. وأنتجت الفرس وذو الحافر بالألف: استبان حملها فهي نتوج . وهذا التفصيل لا يوجد في غير هذا الكتاب، ولهذا نقل برمته. ونوكى بفتح النون: جمع أنوك، وهو الأحمق الضعيف التدبير؛ والاسم النوك بالضم والفتح، نوك كفرح نواكة ونوكا محركة واستنوك، وهو أنوك ومستنوك، والجمع نوكى كسكرى ونوك كهوج، وامرأة نوكاء من نوك أيضاً. وأنوكه: صادفه أنوك وقوله: فلا يحمونه، أي: لا يمنعون من أراد الإغارة عليه. والأبناء: كل بني سعد بن زيد إلا بني كعب بن سعد. وتحسبونه بالخطاب أيضاً. وأيهات: لغة في هيهات. وقوله: لما ترجونه، بالخطاب أيضاً، أي: رجوا أن يدوم لهم هذا الفعل في الناس فمنعناهم منه وحمينا ما ينبغي أن نحميه. وهذه الأبيات قيلت في يوم الكلابي الثاني، فإن للعرب فيه يومين عظيمين. وهو بضم الكاف وتخفيف اللام، وهو ماء لبني تميم بين الكوفة والبصرة. وكان من حديث هذا اليوم على ما في شرح المناقضات وفي الأغاني: أنه لما أوقع كسرى ببني تميم - وذلك أنهم كانوا أغاروا على لطيمته فلجئوا إلى الكلاب، وذلك في القيظ، وقد أمنوا أن تقطع عليهم تلك الصحارى، فدل عليهم بنو الحارث ابن عبد المدان فقتلت المقاتلة وبقي الذراري والأموال - بلغ ذلك مذحجاً فمشى بعضهم إلى بعض وقالوا: اغتنموا بني تميم، ثم بعثوا الرسل في قبائل اليمن وأحلافها من قضاعة، فقالت مذحج للمأمور الحارثي الكاهن: ما ترى؟ فأشار بالكف عن غزوهم. وزعموا أنه اجتمع من مذحج ولفها اثنا عشر ألفاً - فكان رئيس مذحج عبد يغوث بن وقاص، ورئيس همدان رجل يقال له مشرح، ورئيس كندة البراء ابن قيس بن الحارث الملك - فأقبلوا إلى بني تميم فبلغ ذلك سعداً والرباب، فانطلق ناس من أشرافهم إلى أكثم بن صيفي فاستشاره. فقال: أقلوا الخلاف على أمرائكم، واعلموا أن كثرة الصياح من الفشل، تثبتوا فإن أحزم الفريقين الركين، وربما عجلة تهب ريثاً؛ وابرزوا للحرب، وادرعوا الليل فإنه أخفى للويل . فلما انصرفوا من عند أكثم تهيؤوا للغزو واستعدوا للحرب. وأقبل أهل اليمن في بني الحارث من أشرافهم: يزيد بن عبد المدان، ويزيد بن المخرم، ويزيد بن اليكسم ابن المأمور، ويزيد بن هوبر، حتى إذا كانوا بتيمن - وهي ما بين نجران إلى بلاد بني تميم - نزلوا قريباً من الكلاب، ورجل من بني زيد بن رياح بن يربوع يقال له مشمت بن زنباع في إبل له وهو عند خال له من بني سعد، ومعه رجل من بني سعد يقال له زهير بن بو، فلما أبصرهم المشمت قال لزهير: دونك الإبل. وتنحى عن طريقهم حتى أتى الحي فأنذرهم، فأعدوا للقوم وصبحوهم، فأغاروا على النعم فأطردوه، وجعل رجل من أهل اليمن يقول: الرجز في كل عام نعم تنتابه *** على الكلاب غيباً أربابه فأجابه غلام من بني سعد كان في النعم على فرس له، فقال: عما قليل يلحقن أربابه وروى: عما قليل سترى أربابه صلب القناة حازماً شبابه *** على جياد ضمر غيابه وأقبل بنو سعد والرباب - ورئيس الرباب النعمان بن جساس، بكسر الجيم وتخفيف السين، ورئيس بني سعد قيس بن عاصم. وأجمع العلماء على أن قيس بن عاصم كان الرئيس يومئذ - فقال رجل من بني ضبة حين دنا من القوم - وقال شراح أبيات سيبويه: هو قيس بن حصين بن يزيد الحارثي -: في كل عام نعم تحوونه..... الأبيات وتقدمت سعد والرباب فالتقوا في أوائل الناس فلم يلتفتوا إليهم، واستقبلوا النعم من قبل وجوهه فجعلوا يصرفونه بأرماحهم، واختلط القوم فاقتتلوا قتالاً شديداً يومهم، حتى إذا كان آخر النهار قتل النعمان بن جساس، وظن أهل اليمن أن بني تميم ليسوا بكثير، حتى قتل النعمان فلم يزدهم ذلك إلا جراءة؛ فاقتتلوا حتى حجز بينهم الليل. فلما صبحوا غدوا على القتال. فنادى قيس بن عاصم: يا آل مقاعس - وهو الحارث بن عمرو بن كعب بن سعد بن زيد مناة بن تميم - فسمع الصوت وعلة بن عبد الله بن الجرمي وكان صاحب اللواء يوئذ فطرحه، وكان أول من انهزم منهم، وحملت عليهم سعد والرباب فهزموهم وجعل رجل منهم يقول: الرجز يا قوم لا يفلتكم اليزيدان *** يزيد حزن ويزيد الريان مخرم أعني به والديان مخرم هو ابن شريخ بن المخرم بن حزن بن زياد بن الحارث بن مالك بن ربيعة بن كعب بن الحارث. وهو صاحب المخرم ببغداد. وجعل قيس ينادي: يال تميم، لا تقتلوا إلا فارساً فإن الرجالة لكم! وجعل يأخذ الأسرى فما زالوا في آثار القوم يقتلون ويأسرون حتى أسروا عبد يغوث بن وقاص. وسيأتي الكلام عليه إن شاء الله تعالى في باب المنادى عند شرح قوله: فيا راكباً إما عرضت فبلغن *** نداماي من نجران أن لا تلاقيا وأما وعلة فإنه لحق رجلاً من بني نهد يقال له سليط بن قتب فقال له وعلة: أردفني خلفك! فإنني أتخوف القتل . فأبى أن يردفه، فطرحه عن قربوسه وركب عليها. وأدركت بنو سعد النهدي فقتلوه، فقال وعلة لما أتى أهله: لما سمعت الخيل تدعوا مقاعس *** تطلع مني ثغرة النحر جائر يعني القلب. نجوت نجاء ليس فيه وتيرة *** كأني عقاب دون تيمن كاسر وقد قلت للنهدي هل أنت مردفي *** وكيف رداف الفل أمك عابر! من العبرة يقول: عبرت أمك، كيف تردفني وإنك فل منهزم؟! أناشده والرحم بيني وبينه *** وقد كان في نهد وجرم تدابر أي: تقاطع وتباغض. فمن يك يرجوا في تميم هوادة *** فليس لجرم في تميم أواصر أي: قرابات. فدى لكما رجلي أمي وخالتي *** غداة الكلاب إذ تجز الدوابر وذلك أن قيس بن عاصم لما أكثر قومه القتل في اليمن أمرهم بالكف عن القتل وأن يجزوا عراقيبهم. وأنشد بعده: وهو وهو قطعة من بيت وهو: شهدنا فما نلقى من كتيبة *** يد الدهر إلا جبرئيل أمامها على أن الظرف الواقع خبراً إذا كان معرفة يجوز رفعه بمرجوحية، والراجح نصبه؛ وهذا لا يختص بالشعر خلافاً للجرمي والكوفيين. وجبرئيل مبتدأ. وأمامها بالرفع: خبره، والجملة صفة للكتيبة. وقد أورد هذا البيت ابن هشام في شرح بانت سعاد عند قوله: البسيط غلباء وجناء علكوم مذكرة وروى نصرنا بدل شهدنا. ثم قال: قوافي هذا الشعر مرفوعة، وإنما استشهدت على جواز رفع الإمام، لأن بعض العصريين وهم فيه فزعم أنه لا يتصرف . وقوله يد الدهر بمعنى مدى الدهر، ظرف متعلق بقوله نلقى. ومن زائدة. وكتيبة مفعول لنلقى. ولنا كان في الأصل صفة لكتيبة فلما قدم صار حالاً منه. والكتيبة: طائفة من الجيش مجتمعة، من الكتب وهو الجمع. ونلقى بالنون وبالقاف الفوقية من اللقى، يقال: لقيته ألقاه من باب تعب لقياً، والأصل على فعول، وكل شيء استقبل شيئ وصادفه فقد لقيه. وشهدنا من شهدت المجلس مثلاً: إذا حضرته، فالمفعول محذوف، أي: شهدنا عزوات النبي صلى الله عليه وسلم فما لقينا كتيبة. وعبر بالمستقبل لحكاية الحال الماضية. وهذا البيت لم أرمن ذكره ابتداء إلا أبا إسحاق إبراهيم بن السري الزجاج في تفسيره، أورده عند قوله تعالى: {قل من كان عدواً لجبريل} قال: جبريل: في اسمه لغات قد قرئ ببعضها، ومنها ما لم يقرأ به؛ فأجود اللغات جبرئيل بفتح الجيم والهمز، لأن الذي يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم في صاحب الصور: جبرئيل عن يمينه وميكائيل عن يساره . هذا الذي ضبطه أصحاب الحديث. ويقال جبريل بفتح الجيم وكسرها؛ ويقال جبرئل بحذف الياء وإثبات الهمزة؛ ويقال جبرين بالنون، وهذا لا يجوز في القرآن لأنه خلاف المصحف قال الشاعر: شهدنا فما نلقى لنا من كتيبة.. البيت وهذا على لفظ ما في الحديث وما عليه كثير من القراء، وقد جاء في شعر جبريل، قال الشاعر: الوافر وجبريل رسول الله فين *** وروح القدس ليس له كفاء. ولم يبين قائل البيتين. وقد بينهما الصاغاني في العباب قال: وجبرئيل اسم يقال: هو جبر أضيف إلى إيل، وجبر هو العبد وإيل هو الله تعالى وفيه لغات: جبرئيل كجبرعيل، وجبرييل بغير همز.. وأنشد الأخفش لكعب بن مالك الأنصاري: شهدنا فما نلقى لنا من كتيبة.. البيت ويقال جبريل كحزقيل وأنشد لحسان بن ثابت. وجبريل رسول الله فينا.. البيت ثم ذكر بقية اللغات. ونسبة ابن هشام في شرح بانت سعاد ، وابن عادل في تفسيره هذا البيت إلى حسان غير صحيحة، لأنه غير موجود في ديوانه. وكعب بن مالك هو أحد شعراء رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين كانوا يردون الأذى عنه. وكان مجوداً مطبوعاً قد غلب عليه في الجاهلية أمر الشعر، وعرف به، ثم أسلم وشهد العقبة - لم يشهد بدراً - والمشاهد كلها حاشا تبوك فإنه تخلف عنها. وقد قيل إنه شهد بدراً. وهو أحد الثلاثة الأنصار الذين قال الله فيهم: وعلى الثلاثة الذين خلفوا حتى ضاقت عليهم الأرض . الآية. والثاني والثالث: هلال بن أمية، ومرارة بن الربيع، تخلفوا عن غزوة تبوك، فتاب الله عليهم وعذرهم وغفر لهم، ونزل القرآن المتلو في شأنهم. وتوفي كعب بن مالك في مدة معاوية سنة خمسين، وقيل سنة ثلاث وخمسين وهو ابن سبع وسبعين سنة. ولبس كعب يوم أحد لأمة النبي صلى الله عليه وسلم، وكانت صفراء، ولبس النبي صلى الله عليه وسلم لأمته؛ فجرح كعب أحد عشر جرحاً. ولما قال كعب: الكامل جاءت سخينة كي تغالب ربه *** فليغلبن مغالب الغلاب قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لقد شكرك الله يا كعب على قولك هذا وله أشعار حسان جداً في المغازي وغيرها؛ كذا في الاستيعاب. وأورد له ابن هشام في سيرته مما قاله يوم بدر: ألا هل أتى غسان في نأي داره *** وأخبر شيء بالأمور عليمها بأن قد رمتنا عن قسي عداوة *** معد معاً جهالها وحليمها لأنا عبدنا الله لم نرج غيره *** رجاء الجنان إذا أتانا زعيمها نبي له في قومه إرث عزة *** وأعراق صدق هذبتها أرومها فساروا وسرنا فالتقينا كأنن *** أسود لقاء لا يرجى كليمها ضربناهم حتى هوى في مكرن *** لمنخر سوء من لؤي عظيمها فولوا ودسناهم ببيض صوارم *** سواء علينا حلفها وصميمها وفي نسخة نفيته . وسخينة: لقب قريش، قال في الصحاح: والسخينة: طعام يتخذ من الدقيق دون العصيدة في الرقة وفوق الحساء. وإنما يأكلون السخينة في شدة الدهر وغلاء السعر وعجف المال، وكانت قريش تعير بها . وأنشد بعده: وهو فوردن والعيوق مقعد رابئ ال *** ضرباء خلف النجم لا يتتلع على أن مقعد ظرف منصوب وقع خبراً عن اسم عين، وهو العيوق. واستشهد به س على نصب المقعد على الظرفية مع اختصاصه به، تشبيهاً له بالمكان؛ لأن مقعد الرابئ مكان من الأماكن المخصوصة؛وجاز عمل الفعل في مثله لم يجز في الدار ونحوه، لأنهم أرادوا به التشبيه والمثل، فكأنهم قالوا: والعيوق من الثريا مكان قعود الرابئ من الضرباء، فحذفوا اختصاراً وجعلوا المقعد ظرفاً لذلك؛ ولا تقع الدار ونحوها هذا الموقع، فلذلك اختلف حكمهما. كذا قال الأعلم. وقال الإمام المرزوقي: ومقعد - وإن كان مختصاً في الأمكنة - جائز أن يكون طرفاً؛ لانتقاله عن بابه إلى معنى القرب، كما أن مقعد الإزار ومقعد القابلة منقولان إليه وجعلا ظرفين، وكما أن مناط الثريا ومزجر الكلب نقلا إلى معنى العبد والإهانة وجعلا ظرفين . وقال السيرافي: اعلم أن هذا الباب ينقسم إلى قسمين: أحدهما يراد به تعيين المنزلة من بعد وقرب، والآخر يراد به تقدير القرب والبعد والقرب. فأما ما كان من ذلك يراد به تعيين الموضع وذكر المحل من قرب وبعد فإنه يجوز فيه النصب على الظرف والرفع على خبر الأول تشبيهاً؛ والأكثر فيه النصب. ويدلك على ذلك أنه تدخل الباء عليه فتقول: هو مني بمنزلة، كأنه قال: هو مني استقر بمنزلة - والباء وفي بمعنى واحد - و: هو مني بمزجر الكلب: إذا أردت هو مهان مباعد. فإذا نصبت فالناصب استقر، وإذا رفعت فقلت: هو مني مقعد القابلة جعلته بمنزلة قولك: هو قريب كمقعد القابلة، فإن قلت: هو مني مناط الثريا فكأنك قلت: هو بعيد. وجاز أن تكون هذه الأشياء ظروفاً، لأنهم قد اتسعوا فيما هو من الأماكن أخص من هذه فجعلوه ظرفاً ونصبوه - كقولهم: ذهبت الشام، ودخلت البيت - تشبيهاً بالأماكن المحيطة كخلف وقدام. قال سيبويه: إنما يجوز هذا فيما تستعمله العرب ظرفاً من هذه الأماكن، ولا يجوز القياس عليها . وهذا البيت من قصيدة مشهورة لأبي ذؤيب الهذلي يرثي بها أولاده، عدتها اثنان وستون بيتاً، مطلعه: الكامل أمن المنون وريبها تتوجع *** والدهر ليس بمعتب من يجزع ومنها: أودى بني وأعقبوني غصة *** بعد الرقاد وعبرة لا تقلع فغبرت بعدهم بعيش ناصب *** وإخال أني لاحق مستتبع ولقد حرصت بأن أدافع عنهم *** فإذا المنية أقبلت لا تدفع وإذا المنية أنشبت أظفاره *** ألفيت كل تميمة لا تنفع وتجلدي للشامتين أريهم *** أني لريب الدهر لا أتضعضع والنفس راغبة إذا رغبته *** وإذا ترد إلى قليل تقنع والدهر لا يبقى على حدثانه *** جون السارة له جدائد أربع على بمعنى مع. والحدثان بمعنى الحادثة. والسراة بفتح السين: أعلى الظهر، وسراة كل شيء: أعلاه. والجون بفتح الجيم: الأسود المائل إلى الحمرة؛ وأراد بجون السراة الحمار الوحشي. والجدائد: الأتن التي لا ألبان لها واحدها جدود بفتح الجيم. أخذ يسلي نفسه ويقول: إن أصبت ببني فتكدر بموتهم عيشي فإن الدهر لا يسلم على نوائبه عير أسود الظهر له أتن أربع قد خفت ألبانها. والمعنى: أن الوحش في تباعدها عن كثير من الآفات التي يقاربها الإنس، وفي انصرافها بطبعها وحدسها عن جل مراصد الدهر، وعلى نفارها الشديد وحذارها الكثير وبعد مراتعها من الصياد - ليست تتخلص بجهدها من حوادث الدهر، بل لابد من هلاكها. وبعد هذا البيت وصفها بطيب العيش في عشرين بيتاً، إلى أن قال: فوردن والعيوق مقعد ***.......... البيت والعيوق: كوكب أحمر يطلع حيال الثريا وفوق الجوزاء. والمقعد بفتح الميم: مكان القعود، ويأتي مصدراً أيضاً. والرابئ مهموز الآخر: اسم فاعل من ربأهم، من باب منع، بمعنى علا وارتفع ورفع وأشرف، كارتبأ. ورابئ الضرباء هو الذي يقعد خلف ضارب قداح الميسر، يرتبئ لهم فيما يخرج من القداح فيخبرهم به، ويعتمدون على قوله فيه؛ وهو مأخوذ من ربيئة القوم وهو طليعتهم. والضرباء: جمع ضريب، ككريم وكرماء، وهو الذي يضرب بالقداح وهو الموكل بها، ويقال له الضارب أيضاً. والنجم: الثريا. ويروى فوق النظم يعني نظم الجوزاء. ويتتلع يتقدم ويرتفع، مأخوذ من التلعة. فقوله: والعيون مقعد ، جملة اسمية حال من نون وردن، يقول: وردت الأتن الماء والعيوق من النجم مقعد رابئ الضرباء من الضرباء، أي: خلفه لا يتقدم. وهذا إنما يكون في صميم الحر عند الإسحار. وإنما قال: خلف النجم لأنك في الصيف ترى المجرة عند الإسحار كأنها ملوية فترى العيوق متخلفاً عن الثريا. وهذا الوقت الذي أشار إليه هو وقت ورود الوحش الماء، ولذلك يكمن الصيادون فيه عند المشارع ونواحيها. ومقعد وخلف: منصوبان على الظرف، وقع الأول خبراً لقوله: والعيوق، والثاني بدلاً منه؛ كأنه أراد: والعيوق من خلف النجم مقعد رابئ الضرباء من الضرباء؛ فحذف من خلف، لأن البدل وهو قوله: خلف النجم، يدل عليه كما حذف من الضرباء لأن جملة الكلام يدل عليه. ويجوز أن يكون خلف النجم في موضع الحال، كأنه قال: والعيوق من النجم قريب متخلف عنه. ويجوز العكس فيكون خلف النجم خبر المبتدأ، ومقعد حالاً، والعامل فيه الظرف، كأنه قال: والعيوق مستقر خلف النجم قريباً. وجملة لا يتتلع ، إما خبر بعد خبر وإما حال بعد حال. قال أبو سعيد الضرير: إنما اشترط التتلع لأن العيوق مادام متقدماً على الثريا ففي الزمان بقية من الأبارد - والأبارد: برد أطراف النهار - فإذا استوى العيوق معها فقد بقي من الأبارد شيء قليل، فإذا استأخر عنها استحكم الحر. ثم ذكر أبو ذؤيب، فيما بعد هذا من أبيات، أن الصياد كمن لهنفأهلكها جميعاً. وأبو ذؤيب اسمه خويلد بن خالد بن محرث بن زبيد بن مخزوم بن صاهلة ابن كاهل، أخو بني مازن بن معاوية بن تميم بن سعد بن هذيل بن مدركة بن إلياس ابن مضر. ومحرث بتشديد الراء المكسورة. وزبيد تصغير الزبد وهو العطية، وقيل براء مهملة. وكان هلك لأبي ذؤيب بنون خمسة في عام واحد، أصابهم الطاعون وكانوا هاجروا إلى مصر. وهلك هو في زمن عثمان رضي الله عنه في طريق مصر، ودفنه ابن الزبير. وقال أبو عمرو الشيباني: مات في طريق إفريقية. وهو شاعر فحل مخضرم أدرك الجاهلية والإسلام.وهو أشعر هذيل من غير مدافعة. وفد على النبي صلى الله عليه وسلم في مرض موته فمات النبي صلى الله عليه وسلم قبل قدومه بليلة، أدركه وهو مسجى، وصلى عليه وشهد دفنه صلى الله عليه وسلم. وحكى عن نفسه قال: بلغنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عليل، وأوجس أهل الحي خيفة واستشعرت حرباً، فبت بليلة طويلة حتى إذا كان وقت السحر هتف الهاتف يقول: الكامل خطب أجل أناخ بالإسلام *** بين النخيل ومقعد الآطام قبض النبي محمد فعيونن *** تذري الدموع عليه بالتسجام فوثبت من نومي فزعاً فنظرت إلى السماء فلم أر إلا سعد الذابح، فتفاءلت به ذبحا يقع في الإسلام، وعلمت أن النبي صلى الله عليه وسلم قد قبض. وسيأتي له أخبار في هذا الكتاب إن شاء الله تعالى. وأنشد بعده: وهو هو قطعة من بيت وهو: أنصب للمنية يعتريهم *** رجالي أم هم درج السيول على أن درجاً ظرف منصوب وقع خبراً لقوله: هم. وتقدم الكلام على نظيره قبله. وهذا البيت لإبراهيم بن هرمة يبكي به قومه لكثرة من فقد منهم. والنصب بالضم: الشيء المنصوب، والشر والبلاء أيضاً؛ ومنه قوله تعالى: {مسني الشيطان بنصب وعذاب}. ودرج السيول: الموضع الذي يمر به السيل فينزل من موضع إلى موضع حتى يستقر. والدرج بفتحتين: الطريق، ورجع أدراجه ويكسر، أي: في الطريق الذي جاء منه. يقول: قومي كانوا غرضاً للمنية فأهلكتهم أم كانوا في ممر السيل فاجترفتهم؟ ف رجالي مبتد ونصب خبره؛ وجملة يعتريهم بالياء التحتية: صفة لنصب، وبالتاء الفوقية: حال من المنية، أي: تنزل بهم. وإبراهيم ، هو أبو إسحاق إبراهيم بن هرمة - بفتح الهاء وسكون الراء المهملة - ابن علي بن سلمة بن عامر بن هرمة. قال ابن قتيبة في الطبقات: هو من الخلج، من قيس عيلان؛ ويقال إنهم من قريش . وفي الأغاني: أن نسبه ينتهي إلى قيس بن الحارث. وقيس هم الخلج وكانوا في عدوان ثم انتقلوا إلى بني نصر بن معاوية بن بكر؛ فلما استخلف عمر أتوه ليفرض لهم فأنكر نسبهم، فلما تولى عثمان أثبتهم في بني الحارث بن فهر وجعل لهم ديواناً فسموا الخلج؟ لأنهم اختلجوا عما كانوا عليه من عدوان؛ وقيل لأنهم نزلوا بالمدينة خلف بطحان، يدفع عليهم إذا جاء السيل ثلاثة خلج: جمع خليج. وابن هرمة آخر الشعراء الذين يحتج بشعرهم، قال ابن قتيبة: حدثني عبد الرحمن عن عمه الأصمعي أنه قال: ساقة الشعراء: ابن ميادة، وابن هرمة، ورؤبة، وحكم الخضري، حي من مأرب، وقد رأيتهم أجمعين . وكان من مخضرمي الدولتين، مدح الوليد بن يزيد، ثم أبا جعفر المنصور. وكان منقطعاً إلى الطالبيين. وكان مولده سنة سبعين، ووفاته في خلافة الرشيد بعد الخمسين ومائة تقريباً. وله في آل البيت أشعار لطيفة منها قوله: المتقارب ومهما ألام على حبهم *** فإني أحب بني فاطمه بني بنت من جاء بالمحكم *** ت والدين والسنة القائمة قال ابن قتيبة: وكان ابن هرمة مولعاً بالشراب، وأخذه صاحب شرطة زياد على المدينة فجلده في الخمر، وهو زياد بن عبيد الله الحارثي، وكان والياً عليها في ولاية أبي العباس. فلما ولي المنصور شخص إليه فامتدحه فاستحسن شعره وقال: سل حاجتك. قال: تكتب إلى عامل المدينة لا يحدني في الخمر. قال: هذا حد من حدود الله، وما كنت لأعطله. قال: فاحتل لي فيه يا أمير المؤمنين. فكتب إلى عامله: من أتاك بابن هرمة سكران فاجلده مائة جلدة واجلد ابن هرمة ثمانين. فكان الناس يمر ون به وهو سكران، فيقولون: من يشتري ثمانين بمائة. وترجمته في الأغاني طويلة. وأنشد بعده: وهو فساغ لي الشراب وكنت قبلاً على أن أصله قبل هذا ، فحذف المضاف إليه ولم ينو لفظه ولا معناه ولهذا نكر فنون. وتتمته: أغص بنقطة الماء الحميم وهذا آخر أبيات خمسة ليزيد بن الصعق وهي: ألا أبلغ لديك أبا حريث *** وعاقبة الملامة للمليم فكيف ترى معاقبتي وسعيي *** بأذواد القصيبة والقصيم وما برحت قلوصي كل يوم *** تكر على المخالف والمقيم فنمت الليل إذ أوقعت فيكم *** قبائل عامر وبني تميم وساغ لي الشراب وكنت قبل *** أغص بنقطة الماء الحميم أبو حريث: كنية الربيع بن زياد العبسي. والمليم: من ألام الرجل إذا أتى بما يلام عليه. والمعاقبة: المناوبة، من العقبة بالضم وهي النوبة. والذود من الإبل: ما بين الثلاث إلى العشر، لا واحد لها من لفظها، والكثير أذود. والقصيبة: على لفظ مصغر القصبة. والقصيم بفتح القاف وكسر الصاد: موضعان. والمخالف: من الخلوف، وهم المقيمون في الحي حيت تذهب الرجال للغزو. وقوله: وساغ.. إلى آخره ، معطوف على قوله فنمت. وروي فساغ بالفاء، وهو خطأ. والحميم: الماء الحار، وليس بمراد وإنما أورده للقافية؛ هو من الأضداد يطلق على الماء البارد أيضاً. وساغ من باب قال: إذا سهل مدخله في الحلق؛ وأسغته: جعلته سائغاً، ويتعدى بنفسه في لغة، ومن هنا قيل: ساغ فعل الشيء وسوغته: إذا أبحته. والشراب: ما يشرب من المائعات. وأغص: مضارع غصصت بالطعام غصصاً من باب تعب، ومن باب قتل لغة؛ والغصة: ما غص به الإنسان من طعام وغيظ على التشبيه. ويتعدى بالهمزة، وهو هنا مستعمل مكان الشرق، لأنه مخصوص بالماء، يقال: شرق بالماء وبريقه: إذا لم يبلعهما. والشجى بالقصر يكون في العظم، يقال شجي العظم من باب فرح، إذا وقف في حلقه. والجرض بإعجام الطرفين، يكون من الهم والحزن؛ يقال جرض بريقه، وهو أن يبتلع ريقه على هم وحزن بالجهد، وهو من باب فرح، والاسم الجرض بفتحتين. وما أحسن قول بعضهم: البسيط ذل السؤال شجى في الحلق معترض *** من دونه شرق من بعد جرض والسبب في هذه الأبيات هو ما حكاه أبو عبيدة قال: كانت بلاد بني غطفان مخصبة، فرعت بنو عامر بن صعصعة ناحية منها، فأغار الربيع بن زياد العبسي على يزيد بن الصعق وكان في كرش الناس - أي: في جماعتهم - فلم يستطعه الربيع، فاستفاء سروح بني جعفر والوحيد ابني كلاب واستفاء من الفيء وهي الغنيمة، أي: ردها معه، والمعنى فاستاق سروحهم، والسرح: الإبل التي ترعى ، فقال في ذلك الربيع: الوافر فإذ أخطأت قومك يا يزيد *** فأنعى جعفراً لك والوحيدا فحرم على نفسه يزيد بن الصعق الطيب والنساء حتى يغير عليه؛ فجمع قبائل شتى ثم أغار فاستاق نعماً لهم، وأصاب عصافير النعمان بن المنذر - وهي إبل معروفة يقال لها العصافير - فقال يزيد في ذلك هذه الأبيات. وقال لبيد بن ريعة أيضاً يرد على الربيع بن زياد حين ذكر جعفراً والوحيد: الوافر لست بغافر لبني بغيض *** سفاهتهم ولا خطل اللسان سآخذ من سراتهم بعرضي *** وليسوا بالوفاء ولا المداني فإن بقية الأحساب من *** وأصحاب الحمالة والطعان جراثيم منعن بياض نجد *** وأنت تعد في الزمع الدواني وأجابه النابغة الذبياني وقال: الوافر ألا من مبلغ عني لبيد *** أبا الدرداء جحفلة الأتان فقد أزجى مطيته إلين *** بمنطق جاهل خطل اللسان وقول لبيد: خطل اللسان ، يريد طول اللسان. وسمي الأخطل لطول لسانه. ويقال شاة خطلاء، إذا كانت طويلة الأذنين. والسراة: الأشراف. وقوله: وليسوا بالوفاء... إلخ ، أي: سأنتقم من أشرافهم بسبب عرضي وإن لم يوفوا بعرضي ولا يدانوه. والحمالة بالفتح: تحمل الدية. والجرثومة: التراب. المجتمع تجمعه الريح في أصول الشجر فيتلبد حتى يصير كأنه خلقة. والزمع: جمع زمعة بالتحريك، وهي هنة زائدة في قوائم الشاة. وقول النابغة: جحفلة الأتان ، بدل من قوله لبيداً، وهو بتقديم الجيم على المهملة. والأتان: الحمارة، وهي كلمة ذم. وأزجى: ساق. تتمة المشهور في رواية هذا البيت: فساغ لي الشراب وكنت قبل *** أكاد أغص بالماء الحميم قال العيني: قائله عبد الله بن يعرب بن معاوية بن عبادة بن البكاء بن عامر، وكان له ثأر فأدركه فأنشده . انتهى. ورواه الثعالبي والزمخشري: أكاد أغص بالماء الفرات ولعله من شعر آخر، وكذلك ما رواه أبو حيان في تذكرته عن الكسائي: أكاد أغص بالماء المعين لكنه رواه عنه وكنت قبل بالرفع والتنوين. ثم قال: قال الفراء: هذا التنوين نظير تنوين المنادى المفرد إذا لحقه التنوين في ضرورة الشعر، كما قال: الرمل قدموا؛ إذ قيل قيس قدمو *** وارفعوا المجد بأطراف الأسل أراد: يا قيس، فنونه ضرورة؛ والأجود النصب كما قال الآخر: فطر خالداً إن كنت تستطيع طيرة *** ولا تقعن إلا وقلبك طائر قال أبو حيان: وهذا الذي اختاره الفراء من نصب المنادى المفرد في الضرورة هو مذهب أبي عمرو وأصحابه؛ والمذهب الأول - وهو رفعه منوناً - مذهب الخليل وسيبويه وأصحابهما. ومذهب أبي عمرو أقيس . ووجه كونه أقيس أن المنادى مفعول، والقياس إذا نون في الضرورة أن يرجع إلى أصله وهو النصب، فإن الضرائر ترجع الأشياء إلى أصولها. وأما رفع قبل مع التنوين فوجهه: أن أصله كان مبنياً على ضمة لحذف المضاف إليه وإرادة معناه، فنون ضرورة كتنوين العلم المنادى. ويزيد هو يزيد بن عمرو بن خويلد بن نفيل بن عمرو بن كلاب الكلابي. وخويلد يقال له الصعق قال أبو عمرو وابن الكلبي: ابن الصعق إنما سمي الصعق لأنه عمل طعاماً لقوم بعكاظ، فجاءت ريح بغبار فسبها ولعنها، فأرسل الله عليه صاعقة فأحرقته. وقال ابن دريد: الصعق: أن يسمع الإنسان الهدة الشديدة فيصعق لذلك ويذهب عقله. والصعق الكلابي أحد فرسانهم، سمي الصعق لأن بني تميم ضربوه ضربة على رأسه فأمته فكان إذا سمع الصوت الشديد صعق فذهب عقله. والله أعلم. وأنشد بعده: وهو ترتع ما رتعت حتى إذا ادكرت *** فإنما هي إقبال وإدبار على أن اسم المعنى يصح وقوعه خبراً عن اسم العين إذا لزم ذلك المعنى لتلك العين حتى صار كأنه هي. هذا من قبيل زيد عدل. وفيه ثلاث توجيهات: أحدها: كونه مجازاً عقلياً بحمله على الظاهر، وهو جعل المعنى نفس العين مبالغة. والثاني: أن المصدر في تأويل اسم الفاعل في نحوه وتأويل اسم المفعول في نحو زيد خلق أي: مخلوق. والثالث: أنه على تقدير مضاف محذوف أي: ذات إقبال. وهذا البيت للخنساء. قال سيبويه: جعلتها الإقبال والإدبار مجازاً على سعة الكلام، كقولك: نهارك صائم وليلك قائم . واستشهد به صاحب الكشاف عند قوله تعالى: {ولكن البر من اتقى} على أن الإسناد مجازي، بدعوى أن المتقى هو عين البر، بجعل المؤمن كأنه تجسد من البر. وكان الزجاج يأبى غير هذا. قال عبد القاهر: لم ترد بالإقبال والإدبار غير معناها حتى يكون المجاز في الكلمة، وإنما المجاز في أن جعلتها لكثرة ما تقبل وتدبر، كأنها تجسمت من الإقبال والإدبار. وليس أيضاً على حذف مضاف وإقامة المضاف إليه مقامه - وإن كانوا يذكرونه منه - إذ لو قلنا: أريد إنما هي ذات إقبال وإدبار أفسدنا الشعر على أنفسنا، وخرجنا إلى شيء مغسول، وكلام عامي مرذول، لا مساغ له عند من هو صحيح الذوق والمعرفة، نسابة للمعاني. ومعنى تقدير المضاف فيه: أنه لو كان الكلام قد جيء به على ظاهره ولم تقصد لمبالغة لكل حقه أن يجاء بلفظ الذات، لا أنه مراد . وروى الأخفش في شرح ديوان الخنساء عن ابن الأعرابي أنه روى فإنما هو أراد: فإنما فعلها. وهذا البيت من قصيد لها ترثي بها أخاها صخراً تنيف على ثلاثين بيتاً في رواية الأخفش؛ وقبله: فما عجول على بو تطيف به *** قد ساعدتها على التحنان أظآر وبعده: لا تسمن الدهر أرض وإن رتعت *** وإنما هي تحنان وتسجار يوماً بأوجد مني يوم فارقني *** صخر، وللدهر إحلاء وإمرار العجول: الثكول، أراد به الناقة. وروى: ما أم سقب وهو الذكر من ولد الناقة ولا يقال للأنثى سقبة ولكن حائل والبوجلد ولد الناقة إذا مات حين تلد أمه، يخشى تبناً وهي لا تراه، ويدنى منها فتشمه وترأمه فتدر عليه اللبن. وساعته: وافقتها. والتحنان: الحنين. والأظآر: جمع ظئر، وهي التي تعطف على ولد غيرها. يقال رتعت الإبل إذا رعت، وأرتعتها: تركتها ترعى. وروى ترتع ما غفلت . واذكرت أي: تذكرت ولدها، وأصله اذتكرت. وزعم ابن خلف عن بعضهم: أنه في وصف بقرة أخذ ولدها. وقولها: لا تسمن الدهر إلخ، يقال حنت الناقة، إذا طربت في إثر ولدها، فإذا مدت الحنين وطربت قيل سجرت بالجيم. وقولها: بأوجد مني، أي: بأشد مني وجداً. وللدهر إحلال وإمرار، أي: سرور وحزن، يقال ما أحلى ولا أمر، أي: ما أتى بحلوة ولا مرة. ومن هذه القصيدة: وإن صخراً لمولانا وسيدن *** وإن صخراً إذا نشتوا لنحار وإن صخراً لتأتم الهداة به *** كأنه علم في رأسه نار قيل إذا اجتمع المولى والسيد قدم المولى كما هنا. وروى: وإن صخراً لحامينا وسيدنا وإنما قالت: إذا نشتو لنحار ، لأن النحر في الشتاء، لأن الإطعام فيه أشد مؤنة. وقوله: لتأتم الهداة به ، أي: تجعله الأدلاء إماماً. والعلم: الجبل، وكل مشرف، شبه بالجبل، وفي رأسه نار أشد للدلالة والهداية، وأشهر في الشرف. وهذا إيغال وهو ختم البيت بما يفيد نكتة يتم المعنى بدونها فإن قوله: كأنه علم ، يتم المعنى به، وهو للتشبيه بما هو معروف بالهداية، فإنها جعلت أخاها جبلاً مشهوراً يتوجه إليه ولا يخفى أمره على قاص ودان، ثم لما أرادت المبالغة لم تقنع بذلك وأردفته بقولها: في رأسه نار، فجعلته بعد أن كان علماً يشار إليه، معلماً بعلامة يعرفه كل من يراه. والخنساء هي بنت عمرو بن الشريد بن رياح بن يقظة بن عصية بن خفاف ابن امرئ القيس بن بهثة بن سليم. واسمها تماضر، بضم التاء المثناة فوق وكسر الضاد المعجمة. قال ابن خلف: قد قالوا للبياض تماضر، وأكثر ما يكون للنساء، ومنه قيل اشتقت المضيرة لبياضها. والخنساء: مؤنث الأخنس، والخنس: تأخر الأنف عن الوجه مع ارتفاع قليل في الأرنبة. ويقال لها خناس أيضاً، بضم الخاء غير منصرف للعدل والتأنيث. وهي صحابية، رضي الله عنها، قدمت على الرسول صلى الله عليه وسلم مع قومها من بني سليم وأسلمت معهم. وهي أم العباس بن مرداس، وهي أم إخوته الثلاثة، وكلهم شاعر. ولم تلد الخنساء إلى شاعراً، ومن ولدها أبو شجرة السلمي. وقال الكلبي: أم ولد مرداس جميعاً الخنساء، إلا العباس، فإنها ليست أمه. ولم يذكر من أمه. وذكر صاحب الأغاني أن الخنساء أمه. وكان النبي صلى الله عليه وسلم يعجبه شعرها ويستنشدها ويقول: هيه يا خناس، ويومئ بيده صلى الله عليه وسلم. ولما قدم عدي بن حاتم على رسول الله صلى الله عليه وسلم وحادثه فقال: يا رسول الله، إن فينا أشعر الناس وأسخى الناس وأفرس الناس، قال: سمهم. قال: أما أشعر الناس فامرؤ القيسي بن حجر، وأما أسخى الناس فحاتم بن سعد - يعني أباه - وأما أفرس الناس فعمرو بن معد يكرب. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ليس كما قلت يا عدي، أما أشعر الناس فالخنساء بنت عمرو، وأما أسخى الناس فمحمد - يعني نفسه صلى الله عليه وسلم - وأما أفرس الناس فعلي بن أبي طالب . واتفق أهل العلم بالشعر أنه لم تكن امرأة قبلها ولا بعدها أشعر منها. وقيل لجرير: من أشعر الناس؟ قال: أنا لولا الخنساء. قيل: بم فضلتك؟ قال: بقوله: البسيط إن الزمان وما يفنى به عجب *** أبقى لنا ذنباً واستؤصل الراس إن الجديدين في طول اختلافهم *** لا يفسدان ولكن يفسد الناس وكانت في أوائل أمرها تقول البيتين والثلاثة حتى قتل أخوها معاوية، ثم أخوها صخر، فأكثرت من الشعر وأجادت، وكان أحبهما إليها لأنه كان حليماً جواداً محبوباً في العشيرة، شريفاً في قومه. وكان أبوها يأخذ بيدي ابنيه صخر ومعاوية ويقول: أنا أبو خيري مضر. فتعترف له العرب بذلك. وما زالت ترثي صخراً وتبكيه حتى عميت، وكانت تقول بعد إسلامها: كنت أبكي لصخر من القتل، فأنا اليوم أبكي له من النار. ودخلت على عائشة رضي الله عنهما وعليها صدار من شعر فقالت لها: ما هذا؟! فوالله لقد مات رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم ألبس صداراً عليه! قال: إن له حديثاً. قالت: وما هو؟ قالت: زوجني أبي سيداً من سادات قومي متلافاً معطاء، فأنفذ ماله وقال لي: إلى أين يا خنساء؟ قلت: إلى أخي صخر. فأتيناه فقاسمناه ماله وأعطانا خير النصفين، إلى الثالثة، فقالت له امرأته: أما ترضى أن تقاسمهم مالك حتى تعطيهم خير النصفين؟ فقال: الرجز والله لا أمنحها شراره *** ولو هلكت قددت خمارها واتخذت من شعر صدارها فذاك الذي دعاني إلى لبس الصدار. وكان من حديث قتله: أنه جمع جمعاً وأغار على بني أسد بن خزيمة؛ فطعنه ابن ربيعة بن ثور الأسدي فأدخل في جوفه حلقاً من الدرع فاندمل عليه فأضناه وطال مرضه ومله أهله، فكانوا إذا سألوا امرأته سليمى عنه قالت: لا هو حي فيرجى ولا هو ميت فينعى - وصخر يسمع كلامها فيشق ذلك عليه - وإذا سألوا أمه قالت: أصبح صالحاً بنعمة الله. فلما أفاق بعض الإفاقة عمد إلى امرأته فعلقها بعمود الفسطاط حتى ماتت. وقيل: بل قال: ناولني سيفي لأنظر كيف قوتي - وأراد قتلها - وناولوه فلم يطق السيف، ففي ذلك يقول: أرى أم صخر ما تمل عيادتي *** وملت سليمى مضجعي ومكاني وما كنت أخشى أن أكون جنازة *** عليك ومن يغتر بالحدثان أهم بأمر الحزم لو أستطيعه *** وقد حيل بين العير والنزوان لعمري، لقد نبهت من كان نائم *** وأسمعت من كان له أذنان وللموت خير من حياة كأنه *** معرس يعسوب برأس سنان وأي امرئ ساوى بأم حليلة *** فلا عاش إلا في شقاً وهوان وقيل: أن التي قالت ذلك بديلة الأسدية، كان قد سباها من أسد واتخذها لنفسه. وأنشدوا مكان البيت الأول: ألا تلكم عرسي بديلة أوجست *** فراقي وملت مضجعي ومكاني قال أبو عبيدة: فلما طال عليه البلاء وقد نتأت قطعة من اللبد في موضع الطعنة واسترخت؛ قالوا له: لو قطعتها لرجونا أن تبرأ، قال: شأنكم، الموت أهون علي مما أنا فيه. فقطعها، فيئس من نفسه ومات. وروي أن امرأته هذه كانت ذات كفل وأوراك، وكانت قد ملته، وكان يكرمها ويقدمها على أهله؛ فمر بها رجل وهي قائمة فقال لها: أيباع هذا الكفل؟ فقالت: عما قليل - وصخر يسمع - فقال: لئن استطعت لأقدمنك أمامي. ثم قال لها: ناوليني السيف أنظر هل تقله يدي! فدفعته إليه فإذا هو لا يقله. فعندها أنشد الأبيات المذكورة. ذكر ياقوت في معجم الأدباء في ترجمة أبي أحمد الحسن بن عبد الله العسكري وقد ترجمناه نحن أيضاً في الشاهد الثامن والعشرين - أن الصاحب بن عباد كان يود الاجتماع به ويكاتبه ويستميل قلبه، فيعتل عليه بالشيخوخة والكبر، فلما يئس منه احتال في جذب السلطان إلى ذلك الصوب وكتب إليه حين قرب من عسكر مكرم كتاباً يتضمن علوماً نظماً ونثراً، ومنه قوله: ولما أبيتم أن تزوروا وقلتم: *** ضعفنا فما نقوى على الوخدان أتيناكم من بعد أرض نزوركم *** على منزل بكر لنا وعوان نسائلكم: هل من قوى لنزيلكم *** بملء جفون لا بملء جفان؟ فلما قرأ أبو أحمد الكتاب أقعد تلميذاً فأملى عليه الجواب: عن النثر نثراً، وعن النظم نظماً، وهو: أروم نهوضاً ثم يثني عزيمتي *** تعوص أعضائي من الرجفان فضمنت بيت ابن الشريد كأنم *** تعمد تشبيهي به وعناني: أهم بأمر الحزم لو أستطيعه *** وقد حيل بين العير والنزوان فلما بلغت الصاحب استحسنها ووقعت منه موقعاً عظيماً، وقال: لو عرفت أن هذا المصراع يقع في هذه القافية لم أتعرض لها. وبقية الحكاية هناك مسطورة. وفي الاستيعاب: أن الخنساء حضرت حرب القادسية ومعها بنوها: أربعة رجال: فقالت لهم: يا بني أنتم أسلمتم طائعين، وهاجرتم مختارين؛ ووالله الذي لا إله إلا غيره إنكم لبنو رجل واحد، كما أنكم بنو امرأة واحدة، ما خنت أباكم، ولا فضحت خالكم، ولا هجنت حسبكم، ولا غيرت نسبكم. وقد تعلمون ما أعد الله للمسلمين من الثواب العظيم في حرب الكافرين. واعلموا أن الدار الباقية خير من الدار الفانية؛ يقول الله عز وجل: {يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا الله لعلكم تفلحون}. فإذا أصبحتم غداً فاغدوا إلى قتال عدوكم مستبصرين، وبالله على أعدائه مستنصرين. فلما أضاء لهم الصبح باكروا مراكزهم فتقدموا واحداً بعد واحد، ينشدون الأراجيز؛ فقاتلوا حتى استشهدوا جميعاً. فلما بلغها الخبر قالت: الحمد لله الذي شرفني بقتلهم، وأرجو من ربي أن يجمعني بهم في مستقر رحمته. فكان عمر رضي الله عنه يعطيها أرزاق أولادها الأربعة، لكل واحد منهم مائة درهم، حتى قبض وماتت الخنساء. وأنشد بعده: وهو أنا ابن النجم وشعري شعري على أن عدم مغايرة الخبر للمبتدأ إنما هو الدلالة على الشهرة، أي: شعري الآن هو شعري المشهور المعروف بنفسه لا شيء آخر. استشهد به صاحب الكشاف عند قوله تعالى: {والسابقون السابقون}. على أن المراد السابقون من عرفت حالهم وبلغك وصفهم، كما في شعري شعري، أي: شعري ما بلغك وصفه وسمعت ببراعته وفصاحته. وصح إيقاع أبي النجم خبراً لتضمنه نوع وصفية، واشتهاره بالكمال، والمعنى: أنا ذلك المعروف الموصوف بالكمال، وشعري هو الموصوف بالفصاحة. وهذا البيت من أرجوزة لأبي النجم العجلي، وبعده: الرجز لله دري ما أجن صدري *** من كلمات باقية الحر تنام عيني وفؤادي يسري *** مع العفاريت بأرض قفر الدر في الأصل اللبن، يقال في المدح لله دره أي: عمله. وقد شرحه الشارح في باب التمييز بما لا مزيد عليه. وقوله ما أجن صدري ، هو صيغة تعجب من الجنون، قال في الصحاح: وقوله ما أجنه - في المجنون - شاذ لا يقاس عليه. ومن كلمات متعلق به، ومن ابتدائية وتعليلية. وأبو النجم تقدمت ترجمته في الشاهد السابع. وأنشد بعده: وهو رفوني وقالوا يا خويلد لا ترعفقلت وأنكرت الوجوه هم هم لما تقدم في البيت قبله، أي: هم الذين يطردونني ويطلبون دمي. وهذا البيت لأبي خراش الهذلي، مطلع قصيدة، وهي ستة عشر بيتاً، ذكر فيها تفلته من أعدائه حين صادفهم في الطريق كامنين له، وسرعة عدوه حتى نجا منهم. روى السكري في شرح أشعار الهذليين عن الأخفش قال: خرج أبو خراش وأم خراش يريدان بعض أهلهما، فمرا بخزاعة، فلما رأتهما خزاعة قالوا: هذا أبو خراش وامرأته فلا تهيجوهما حتى يدنوا منا. فقال أبو خراش لأم خراش: فإن سألوك فقولي: تخلف كأنه يقضي حاجة، وهو مار بكم. فمضت حتى إذا علم أبو خراش أنها قد جاوزت الثنية وأمنهم جاء يمشي رويداً حتى مر في وسطهم، فسلم فردوا عليه السلام، فقال: ممن أنتم؟ قالوا: إخوتك وبنو عمك منهم، فهموا به فعدا وعدوا على إثره، فأعجزهم وجعلوا ينظرون إليه ويرمونه، ونجا منهم وفي الأغاني بسنده: أن أبا خراش الهذلي خرج من أهله هذيل، يريد مكة، فقال لزوجته أم خراش: ويحك إني أريد مكة لبعض الحاجة، وإن بني الديل يطلبونني بترات، فإياك أن تذكريني؟ فخرج بها وكمن لحاجته، وخرجت إلى السوق لتشتري عطراً وما تحتاجه النساء فمر بها فتيان من بني الديل فقال أحدهما لصاحبه: أم خراش ورب الكعبة؟ فسلما عليها فقالت: بأبي أنتما من أنتما؟! فقالا: رجلان من أهلك هذيل. قالت: فإن أبا خراش معي فلا تذكراه لأحد، ونحن رائحون العشية. فجمع الرجلان جماعة وكمنوا في طريقه، فلما نظر إليهم قال لها: قتلتني. قالت: ما ذكرتك ورب الكعبة إلا لفتيين من هذيل. فقال: والله ما هما من هذيل ولكنهما من بني الديل، وقد جلسا لي وجمعا جماعة من قومهما، فإذا جزت عليهم فإنهم لن يعرضوا لك لئلا أستوحش فأفوتهم، فاركضي بعيرك وضعي عليه العصا. فكانت على قعود يسابق الريح. فلما دنا منهم وقد تلثموا ووضعوا تمراً على طريقه على كساء فوقف قليلاً كأنه يصلح شيئاً - وجازتهم أم خراش ووضعت العصا على قعودها - وتوثبوا إليه، فوثب العدو، وسبقهم ولم يلحقوه. وقال أبو خراش في ذلك هذه القصيدة . ورفوني قال المفضل بن سلمة في الفاخر ، والمرزوقي في شرح الفصيح: رفوت الرجل: إذا سكنته - وأنشد هذا البيت - ثم قالا: ويقال رافيت فلاناً أي: وافقته. قال الشاعر: الوافر ولما أن رأيت أبا رويم *** يرافيني ويكره أن يلاما وأما رفأت الثوب إذا أصلحت خرقه أرفؤه رفئاً فبالهمز، ومنه: بالرفاء والبنين، إذا دعى للمتزوج. وفي المقصود والممدود للقالي: الرفاء بالمد: الاتفاق والالتئام، ومنه قولهم: بالرفاء والبنين - ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقال: بالرفاء والبنين. وقال أبو عبيدة قال الأصمعي: الرفاء يكون على معنيين: يكون من الاتفاق وحسن الاجتماع، قال: ومنه أخذ رفء الثوب، لأنه يرفأ فيضم بعضه إلى بعض ويلأم، ويكون الرفاء من الهدو والسكون، قال: رفوني وقالوا يا خويلد.. البيت وحدثني أبو بكر بن دريد قال: قال الأصمعي في بيت أبي خراش: أراد رفئوني بالهمز. والدليل على صحة ما روى أبو بكر قول الأصمعي في كتاب الهمز: ويقال رفأت الرجل، إذا سكنته حتى يسكن. وكذلك: المرافأة مهموز، والدليل على ذلك قول أبي زيد في كتاب الهمز: رفأت الثوب أرفؤه رفئاً، ورفأت المملك ترفئة إذا دعوت له، ورافأني الرجل في البيع مرافأة فجعله مهموزاً لا غير. وكذلك قال العسكري في كتاب التصحيف: أخبرنا ابن أبي سعيد أخبرني طابع سمعت قعنب بن محرز يسأل الأصمعي عن قول الشاعر: رفوني وقالوا يا خويلد.. البيت ، فقال قعنب: رقوني بالقاف، فقال الأصمعي: ما معنى رقوني؟ قال: رقوه بالكلام. قال يصحف ويفسر التصحيف: إنما هو رفوني بالفاء، وأصله رفئوني من رفأت، فأزال الهمزة الشاعر . وخويلد: اسم الشاعر. ولا ترع نهي بالبناء للمفعول، أي: لا يحصللك روع وخوف. وجملة أنكرت حال من ضمير قلت، بتقدير قد وجملة وهم هم مقول القول. وأبو خراش قال ابن قتيبة في الطبقات: هو خويلد بن مرة، أحد بني قرد بن عمرو بن معاوية بن تميم بن سعد بن هذيل. أحد فرسان العرب وفتاكهم. أسلم وهو شيخ كبير وحسن إسلامه . وفي تاريخ الذهبي ما يدل على أن إسلامه كان يوم حنين. ذكره ابن حجر في القسم الثالث من الإصابة، وهم المخضرمون الذين لم يرد في خبر قط أنهم اجتمعوا بالنبي صلى الله عليه وسلم. وفي الأغاني عن الأصمعي قال: دخل أبو خراش مكة في الجاهلية - وكان ممن يعدو على رجليه فيسبق الخيل - فرأى الوليد بن المغيرة له فرسان يريد أن يرسلهما في الحلبة فقال: ما تجعل لي إن سبقتهما عدواً؟ قال: إن فعلت فهما لك.. فسبقهما . وقال الكلبي والأصمعي: مر على أبي خراش نفر من اليمن حجاجاً فنزلوا عليه فقال: ما أمسى عندي ماء، ولكن هذه برمة وشاة وقربة، فردوا الماء فإنه غير بعيد، ثم اطبخوا الشاة وذروا البرمة والقربة عند الماء نأخذهما. فامتنعوا وقالوا: لا نبرح. فأخذ أبو خراش القربة وسعى نحو الماء تحت الليل فاستقى، ثم أقبل فنهشته حية فأقبل مسرعاً حتى أعطاهم الماء ولم يعلمهم بما أصابه. فباتوا يأكلون؛ فلما أصبحوا وجدوه في الموت؛ فأقاموا حتى دفنوه. فبلغ عمر بن الخطاب رضي الله عنه خبره فقال: والله لولا أن تكون سنة لأمرت أن لا يضاف يماني بعدها ثم كتب إلى عامله أن يأخذ النفر الذين نزلوا به فيغرمهم ديته .. وأنشد بعده: وهو
|